بعد عام على الحرب.. هل تواصل العملة الروسية صمودها؟
دخلت الحرب الروسية الأوكرانية عامها الثاني، وسط أجواء توحي باستحالة تحديد أي سقف زمني لانتهاء هذا الصراع، ومع غياب أي حل يلوح في الأفق.
والحرب الروسية الأوكرانية التي اعتبرت الحدث العالمي الأبرز خلال العام المنصرم، انعكست سلبا على اقتصاد البلدين، وخاصة الاقتصاد الروسي الذي واجه عاصفة من العقوبات، وضعته تحت ضغوط هائلة.
وفيما كان متوقعا أن تكون لانعكاسات هذه الحرب، آثارٌ مدمرة على العملة الروسية، أظهر الروبل قدرة مفاجئة على الصمود، معانداً بقوة مفاعيل العقوبات، ما وضع الرئيس الأميركي جو بادين في موقف محرج، خصوصاً أنه أعلن خلال الأيام الأولى للحرب، أن خطوات بلاده شلت قدرات المركزي الروسي على دعم العملة الروسية، التي باتت تساوي أقل من بنس أميركي واحد، وهو كلام أثبتت الوقائع عدم صحته.
دور الجنرال المالي في قوة الروبل
ويمكن القول إن الروبل الروسي استمد قوته خلال العام الأول من الحرب، من قرارات رئيسة المصرف المركزي الروسي إلفيرا نابيولينا، التي وصفت بالجنرال المالي الذي أدار معركة محافظة الروبل على قوته بدهاء، فهي نجحت في جعل العملة تصمد أمام 11327 عقوبة تم فرضها على الاقتصاد الروسي، خلال الفترة الممتدة من 22 فبراير 2022 وحتى 19 فبراير 2023، بحسب “ستاتيستا”.
وبرز نجم نابيولينا في الأيام الأولى للحرب الروسية الأوكرانية، عندما اجتاحت الروبل موجة دامية من الخسائر وصلت إلى فقدانه ما يقرب من 60 بالمئة من قيمته، فقررت نابيولينا اتخاذ إجراءات سريعة ساهمت في لجم الانهيار، وذلك عبر رفع سعر الفائدة من 9.5 بالمئة إلى 20 بالمئة، لوقف نزيف سحب الأموال من البنوك.
كما فرضت على الشركات الروسية شراء الروبل بنسبة 80 بالمئة من العملات الأجنبية، ووضعت سقفا للسحوبات والتحويلات للخارج بالعملات الأجنبية، لتأتي الضربة القاضية لمفعول العقوبات، بطلب السلطات الروسية من الدول “غير الصديقة” دفع ثمن الطاقة الروسية المصدرة بالروبل، حيث ساهمت هذه الخطوة بالتحديد في إعادة العملة الروسية إلى المستوى الذي كانت عليه قبل بدء الحرب.
وما تمكنت من تحقيقه إلفيرا نابيولينا خلال العام الأول للحرب، هو نتيجة عملها المسبق في إعداد بلادها للتعامل مع “اقتصاد العقوبات”، فروسيا كانت تواجه نحو 2750 عقوبة قبل بدء الحرب مع أوكرانيا.
وتستمر نابيولينا في قيادة القطاع المالي للبلاد بنجاح حتى الآن، حيث استطاعت إعادة مستويات الفائدة في روسيا إلى 7.5 في المئة، مع الأخذ في الاعتبار ديناميكيات التضخم، وعملية إعادة هيكلة الاقتصاد الروسي.
العام الثاني للحرب
والآن ومع دخول الحرب عامها الثاني، بدأت العملة الروسية في إظهار علامات ضعف، أدت إلى تسجيلها مستوى 76 روبلا للدولار، في مؤشر يرى بعض الخبراء، أنه دليل على الاتجاه الذي ستسلكه العملة في المرحلة المقبلة، في حين يؤكد آخرون أن هذا التراجع مدروس، وأن العملة الروسية لا تزال تملك مقومات الصمود عند معدلاتها الحالية.
ويقول الأكاديمي والباحث الاقتصادي الدكتور مخلص الناظر، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن الروبل الروسي مرّ بثلاث مراحل منذ 24 فبراير 2022 وحتى 24 فبراير 2023، حيث بدأت المرحلة الأولى وهي مرحلة الصدمة بعد أيام قليلة من انطلاق الحرب، مع تسجيل العملة الروسية لانخفاض كبير، إثر موجة عنيفة من العقوبات، أدت إلى وصولها إلى مستويات 150 روبلا للدولار.
مرحلة التعافي المؤقت
وبحسب الناظر فإن التراجع الكبير للروبل كان أمراً طبيعياً، في ظل وضع جيوسياسي استدعى هروب المستثمرين نتيجة استهداف الاقتصاد الروسي، بوابل من العقوبات التي تعد من الأقسى في التاريخ، مشيراً إلى أن المرحلة الثانية وهي مرحلة التعافي المؤقت للروبل، بدأت في نهاية شهر مارس 2022 واستمرت حتى بداية شهر سبتمبر، حيث استعادت العملة الروسية قوتها، ووصلت إلى مستويات 50 روبلا للدولار في يونيو 2022، بدعم من إلزام روسيا الدول “غير الصديقة”، بدفع ثمن مستورداتها من الغاز والنفط الروسييْن بالروبل.
مرحلة العودة للهبوط
ويضيف الناظر أن العملة الروسية تمر حالياً بالمرحلة الثالثة، التي تشير إلى أن الروبل سيسجل تراجعات
بضغط من مفاعيل القرارات التي وضعت سقفاً لسعر النفط الروسي، وسقفاً لسعر الغاز المبيع في أوروبا، إضافة إلى إيجاد الدول الأوروبية بدائل للغاز الروسي، ما أدى إلى تقلص فائض الحساب الجاري الروسي، وتسبب في تراجع الإيرادات التي تحققها البلاد، نتيجة تراجع صادرات النفط والغاز ما انعكس هبوطاً بالروبل للمستوى الذي هو فيه الآن.
ويرى الناظر أن الروبل الروسي ليس بالقوة التي ظهر خلالها في مرحلة التعافي المؤقت، مشيراً إلى أن القيمة الحقيقية للعملة الروسية هي تلك التي ظهرت في المرحلة الأولى من الحرب، متوقعاً أن يعود الروبل إلى مستوى 150 روبلا للدولار الأميركي خلال المرحلة المقبلة، حيث إن المزيد من العقوبات يعني المزيد من التراجع للعملة الروسية.
قاعدة تضمن الاستقرار
من جهته يقول الخبير في التوجيه المالي والاقتصادي عبدالله حرفوش في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن السياسة التي تتبعها القيادة الروسية في الوقت الراهن، تقتضي إبقاء الروبل عند المستويات الحالية، وهي ترى أن ليس هناك من مصلحة اقتصادية بجعل العملة تضعف أكثر أو حتى أن تصبح أقوى، وكل ذلك بدعم من السياسات المالية التي اتبعها البنك المركزي الروسي، خلال الفترة الماضية والتي عملت على خلق قاعدة تضمن الاستقرار للروبل.
وبحسب حرفوش فإن الاستراتيجية التي تتبعها روسيا ببيع نفطها للصين والهند وأطراف أخرى، هي استراتيجية ناجحة حتى الساعة، وتحقق لها الإيرادات الكافية لدعم اقتصاد البلاد، وتخطي مفاعيل العقوبات التي تم فرضها على قطاع الطاقة المحلي، لافتاً إلى أن معظم الأموال الصعبة التي تحققها روسيا حالياً من صادرات النفط والغاز، تذهب لدعم الروبل، إضافة إلى المصروف الحربي.
روسيا تنتقل إلى الاقتصاد الوطني
ويرى حرفوش أن روسيا انتقلت للاقتصاد الوطني في العام الأول للحرب، حيث بدأت صناعاتها المحلية في اكتساب المزيد من القوة، واستطاعت أن تحل مكان الشركات العالمية التي غادرت البلاد، مشيراً إلى أنه في حين كانت التوقعات، تشير إلى أن نسبة الانكماش في الاقتصاد الروسي ستبلغ 12 في المئة في 2022، أتت المفاجأة بتسجيلها نسبة 2.1 في المئة.
ويختم حرفوش حديثه بالإشارة إلى وجود الكثير من العوامل، التي تؤثر في الاتجاه الذي سيسلكه الروبل الروسي خلال العام الثاني للحرب، متوقعاً في حال استمرار الحرب، وفقاً للنمط الحالي للأحداث، أن يتمكن الروبل من المحافظة على قوته الحالية، أو أن يتراجع بنسبة طفيفة وليس كبيرة، أما في حال وقوع أحداث محورية كبيرة غير متوقعة في الحرب، فإن الوضع سيكون مفتوحاً أمام جميع الاحتمالات بالنسبة للعملة الروسية.