د. محمد بن إبراهيم الملحم
هل جربت أن تعمل إعادة تهيئة (فورمات) Format لكمبيوترك وتشاهد كيف يعمل بسرعة وفعالية ويعود كأنه جديد مثلما اشتريته أول يوم مع أنه كان قبل هذه العملية بطيئاً من كثرة الاستخدام مما يجعله مملاً لا ينفعك، بل يضيع وقتك ويجلب لك الهم. إن هذا المظهر المزعج يعود إلى أنّ تصفح الإنترنت يجلب الكثير من ملفات التعريف التي يخزنها نظام التشغيل ويشغلها كل مرة وكذلك الأمر مع البرامج التي يتم تركيبها بين فترة وأخرى، كل هذه أثقال وأحمال على كاهل كمبيوترك، وأنت ما إن تراه أصبح متعباً حتى تبادر إلى عمل إعادة تهيئة (فورمات) فيعود كأنك اشتريته بالأمس أو كأنه ولد لك بالأمس، إن الأمر ذاته يحدث مع الحاج الذي أنهى حجه بإخلاص وعاد إلى أهله، يعود إليهم مولوداً جديداً قد عمل له الحج إعادة تهيئة شاملة وصفّر عداد سيئاته ليبدأ حياة جديدة يسجل فيها الحسنات فقط ويتجنب أن يتعرض سجل سيئاته لأي حركة تسجيل، إنها ولادة جديدة فهو لا يختلف هنا عن المولود الجديد الذي قدم إلى الدنيا بصرخة الحياة واستقبلته الأيادي فرحاً وسروراً، لقد جاء ومعه صحيفتان فارغتان تماماً: صحيفة الحسنات وصحيفة السيئات وبعد أن يفهم دور هذه الصحائف عليه أن يجتهد كيف يتعامل معها بطريقة صحيحة.
قبل يومين وقف الناس في عرفات حيث تتجلى رحمة الله العظيمة فلا يُرى عتقاء من النار مثلما يُرى في ذلك اليوم كما جاء في الحديث الصحيح عن مسلم وكذلك يباهي الله ملائكته بهؤلاء الحجاج الذين اجتمعوا من كل ديار الدنيا يلهجون إليه سبحانه بالدعاء والتضرع، ثم تتم مناسكهم يوم غدٍ بإذن الله لمن سيتعجل منهم في يومين كما ورد في الآية الكريمة {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ}، ليعودوا لأهلهم وقد تجددت حياتهم، الذين اتبعوا أسس الحج وآدابه منهم وعبدوا الله فيه حق العبادة ولم يرفثوا ولم يفسقوا سيعودون غداً وبعد غدٍ إلى أهليهم كما ولدتهم أمهاتهم: صحائفهم بيضاء ناصعة تماماً قد تخلصوا من الأوزار التي كتبت، ليس فقط من تدوينها وإثبات الملائكة لها في صحائفهم ولكن تخلصوا أيضاً من عبئها وثقلها على نفوسهم وأرواحهم، فالتبتل إلى الله والخلو إلى النفس والتأمل في صفة الحج ومظاهره يجلب الخشوع والخضوع وينشط مفهوم العبودية لله والذي غفل عنه الإنسان لكثرة ما تمكن منه من الموارد والنعم والإمكانيات التي وضعها له ربه لكنه نسي أن يتفكر كيف جاءته وحاز عليها دون غيره فعنده عيون يبصر بها وغيره يفتقر إليها، وعنده أذن تسمع ولسان ينطق وأرجل تمشي وأيد تخدمه، وهو يأكل ويشرب وكثيرون غيره حرموا من ذلك، ولن نتحدث عن ما مكنه الله منه من النعم الأخرى. في الحج يتأمل الإنسان وقد ابتعد عن أهله وموارده وجلس في هذه الصحراء بإحرامه الذي حرمه ملابسه اليومية التي يزهو بها كما تعود فيقوده تأمله إلى تذكر أنه عبد لله وتذكر كل تلك النعم التي أنعمها الله عليه وتذكر أن لديه موعداً للحديث مع ربه لم يستعد له.
كل ذلك سيجعل الحاج يمارس العبادة من جديد بروح صافية ونفس مشرقة بعد تخلصها مما يعيقها روحاً وجسداً، ويعود الأداء الإيماني سريعاً خفيفاً نشطاً، تماماً مثل الأداء السريع والجميل لكمبيوترك الذي عملت له إعادة تهيئة، إنها حقاً ولادة جديدة، وهذا ما يفسر الدموع التي تراها في عيون كثير من الحجاج الذين طالما تشوقوا لهذه اللحظات وانتظروها ليغسلوا هنا خطاياهم وزللهم ويبدأوا صفحة جديدة مع ربهم ويفتحوا سجلاً ناصعاً يشرفهم يوم أن يكون موعد اللقاء مع خالقهم ليتحدث معهم حول ماضيهم حديثاً قد لا يسرهم لو ظلت تلك التسجيلات مثبتة… ولكنهم اليوم سيتمكنون من التحدث مع ربهم وهو يناقشهم بلغة أفضل وبحجة أقوى وقد فتحوا صفحتهم الجديدة وبدأوا تسجيلاً موفقاً كله عبادة وطاعة وإخلاص لربهم. تقبل الله منا ومنكم وكل عام أنتم بخير.
**
– مدير عام تعليم سابقا