د. محمد بن إبراهيم الملحم
نعم ماذا يريد المجتمع من التعليم؟ وهو سؤال أتمنى من كل مسؤول أن يتأمله ليس وهو يقوم بعمله فقط بل حتى قبل أن يدخل عالم التعليم ومجاله سواء كان معلما أو إدارياً أو أي مسؤول أعلى من ذلك، فمن لا يتمكن من توصيف إجابة وافية متكاملة شاملة عن هذا السؤال… من لا يجد نفسه منطلقاً في الإجابة ومتحدثاً بكل ثقة فيجب ألا يضع نفسه في خدمته ويقوم بشئونه ويشارك فيه. عندما تتوجه بسيارتك فأنت تعلم أين ستذهب ولماذا ستذهب وكيف ستذهب، التعليم ليس كغيره من المجالات يمكنك أن تعمل فيه بشكل آلي دون إدراك غاياته، بل إني أدعي أن أعقد المهن كالهندسة والطب والمحاماة يمكنك أن تؤدي العمل فيها بإتقان حتى لو لم تكن مدركا لغاياتها لكنما ذلك لا ينطبق على التعليم فالطبيب الحاذق المتمكن ليس شرطا لأداء مهنته أن يقدم لنا موجزا عن أهمية الطب في للمجتمع أكثر من الحفاظ على صحة الإنسان، ولكن لماذا نحافظ على هذه الصحة فهي بالنسبة له حاجة فطرية فردية لا أكثر، بينما بالنسبة لمن يفكر في المجتمع بشكل شمولي فذلك وسيلة مهمة للمحافظة على أهم مكون من مكونات المجتمع ليبقى قادرا على الإنتاج دون أن يرفع على الدولة تكلفة صيانة جسمه والمحافظة عليه أو دون أن يفقد المجتمع مزيدا من أفراده المنتجين لأسباب تفشي المرض. ومثله يقال للمهندس والمحامي والمحاسب، لكن المعلمين والمعلمات ومن يعملون في إدارة العملية التعليمية يجب أن يتمثلوا أمثال هذه المعاني وهم يقومون بمهامهم وإلا سيقصرون فيها، فالتعليم وسيلة بناء الإنسان في علمه وشخصيته وفهمه للحياة وتفاعلاته مع كل جوانب حياته الصحية والهندسية والقانونية وهو وسيلة الإنسان للتحضر والاحترام المتبادل، ولذلك فإن كل هؤلاء ليس دورهم تغذية عقل المتعلم بالمعلومات فقط! بل توجيهه، وتقويمه، وتهذيبه، وتقديم القدوة له، وإكسابه المهارات الحياتية والمعرفية على حد السواء، وتعليمه كيف يتعلم، وتشجيعه على طرح الأسئلة وفهم العالم، وتهيئته ليجابه تحديات المجتمع انفتاحا أو انغلاقا، والقائمة تطول أكثر، إن المعلم الذي لا يتفهم دور التعليم وقيمته للمجتمع سينكفئ على تغذية الطالب بالمعلومات فقط بشكل آلي، وهو ما يبعده عن الدور الحقيقي للتعليم، وهكذا فإن ما ينطبق على الطبيب والمهندس في العمل الآلي لما درسه كل منهما وتعلماه من مهارات طبية أو هندسية لا ينطبق على المعلم، فهو يقوم برسالة وهم يؤدون وظيفة. وما يقال عن العلم والمعلمة يقال عن كل مسئول يعمل في التعليم لأن الحالة غير التعليمية أوغير التربوية التي يصل إليها المعلمون (مع الأسف) هي في المقام الأول نتاج أداء وفكر وتصورات المسؤولين ولا يجوز حصرها على المعلمين والمعلمات فقط.
لعل ما تقدم هو أول إجابة عن سؤال ماذا يريد المجتمع؟ وبشكل صريح أقولها: يريد المجتمع من كل من يعمل في التعليم أن يفهم بعمق وصدق ما هو الدور الحقيقي للتعليم؟ إن كان غيرنا تقدم علينا في التعليم (وبسبب التعليم) فذلك بكل بساطة لأنهم فقهوا هذه المسألة وجهلناها (أو تجاهلناها!). ماذا يريد المجتمع أيضاً؟ يريد المجتمع أن يشارك في صناعة القرار التعليمي، فالآباء والأمهات لا تمثيل لهم في اجتماعات صناعة القرار التعليمي، لا شك أن اتخاذ القرار هو مسؤولية المسؤول الأول لكن أتحدث عن صناعة القرار، هناك ندوات ولقاءات واجتماعات يمكن أن يدعى إليها أولياء الأمور والمهتمون بالشأن التعليمي للاستماع إليهم والإفادة منهم، فلماذا لا يحدث ذلك؟ أعرف الإجابة مسبقاً: وهي أن أغلب بل ربما كل المسؤولين والمسؤولات الذين يشاركون بشكل رسمي في اجتماعات صنع القرار هم آباء أو أمهات! ولكن هذه الإجابة الدبلوماسية مع كامل الاحترام لها تحتاج مزيد تأمل فقد كنت يوما أحد هؤلاء وأنا ولي أمر، ولا يمكن للشخص «كمرؤوس» يريد رضا رؤسائه أو على الأقل «عدم إزعاجهم» أن يقول ما يخالف توجهاتهم ولو كان رأيه الأفضل ولديه مبرراته المنطقية وربما العلمية أيضا. بل إني أعرف بعض زملائي من المسؤولين عندما أسولف معهم عن قرار ما لماذا لم تقل رأيك فيه؟ فإنه يجيب «أظن» أن المسؤول فلان «ربما» لا يحب ذلك فلا أريد أن أقول شيئاً «ربما» يزعجه، ومع أنه لا يجزم بما يريده المسؤول أو ما لا يريده لكنه يعيش في رغد عيش منصبه تحت مظلة «ربما» هذه.
ماذا يريد المجتمع أيضا؟ يريد الكثير في الواقع سواء في المباني والتجهيزات أوالخدمات أو الأنظمة أو الممارسات وكل قارئ أفضل مني في سردها! لكني سأختم بما يردده أغلب الناس اليوم فالمجتمع يريد استقراراً للتعليم وتوقف نزيف التغييرات المستمرة في الأنظمة والممارسات، يريدون توقف التجارب التي لانعلم ولم نعلم وربما لن نعلم ما نتائجها، والسلام.
** **
– مدير عام تعليم سابقاً