د. محمد بن إبراهيم الملحم
الفخامة مطلب لكثير من الناس، بيد أن لها ثمنها فلا شك أن الملبس الفخم سعره مرتفع وكذلك السيارة الفخمة والساعة الفخمة والجوال الفخم والبيت الفخم وحتى الأكل الفخم، وعندما يتعلق الأمر بالتربية التعليم أو الصحة فلا أظن أن هناك حالة فخامة يمكن تصورها، فالصحة هي حياة الإنسان التي يجب الحفاظ عليها وصيانتها والعمل على إزالة ما يمكن أن يؤثر في وظائفها الطبيعية فتتعطل كلياً أو جزئياً، والممارسات الصحية في هذا الشأن لا تفرق بين غني أو فقير ولا علاقة لها بما يمتلكه الإنسان عندما يتعلق الأمر بالحد الأدنى، فلا يمكن مثلاً أن يدفع الإنسان أكثر ليحصل على صحة أفضل، وكذلك الأمر في حالة التعليم، فالمعرفة من المعطيات المشتركة بين كل الناس غنيهم وفقيرهم، بل إنه قد يتفوق فيها بعض الفقراء على بعض الأغنياء، وقد يتساوون، بيد أن كلاً من الصحة والتعليم توافرت فيهما عناصر يمكن أن ينفذ منها أصحاب الثراء لتحقيق عامل الفخامة الذي هو هدفهم المستمر في الحياة، ففي حالة الصحة تمثّل بعض المستشفيات الخاصة ذات الكلفة الأكثر بما تتميز به من أروقة جذابة وصالات انتظار فاخرة وتجهيزات متجددة، وطواقم تمريض وإدارة ذات تدريب عال على الضيافة والترحيب والاهتمام ملاذا لتحقيق الفخامة، يضاف إلى ذلك أجنحة التنويم الخاصة ذات خمسة النجوم وما إلى ذلك من الخدمات والمميزات ، في حين تظل الإجراءات الطبية هي ذاتها بما تتضمنه من أدوية وتدخلات طبية متنوعة لا تختلف عن تلك التي تقدم لمن لا يملك التمتع بمزايا خدمات الضيافة والاستقبال في هذه المستشفيات الفخمة.
وفي حالة التعليم وفرت المدارس الخاصة (الأهلية) بديلاً فخماً للمدرسة الاعتيادية وبدرجات فخامة متنوعة، حيث يجد الطلاب الفخمون في هذه المدارس الفخمة تأثيثاً مختلفاً ومباني متميزة ومدرسين متسامحين «وأحياناً متميزين» وإدارة تدلل هؤلاء الطلاب الفخمين تماماً كما تدللهم أسرهم، وحتى لو لم يوجد العنصران الأخيران فإن هناك مظهراً مهماً من مظاهر الفخامة يتمثّل في المنهج، ففي بدايات التعليم الأهلي كانت مادة اللغة الإنجليزية مرتكزاً لتميز المدرسة الأهلية عن الحكومية سواء كمطلب معرفي (لبعض أولياء الأمور الجادين) أو مطلب فخامة (لبعض آخر منهم) ولا نجزم في الواقع بفروق كمية هنا لنحدد نسبة هؤلاء وهؤلاء، لكن نعلم بوجود الفريقين بالطبع، ثم دخلت مادة الحاسب الآلي في هذه المساحة، ثم انتقلت الفخامة إلى طور جديد في جيلنا المعاصر وهو التعليم الأجنبي، وذلك أن التدريس التقليدي لمادة اللغة الإنجليزية الإضافية (والتي كانت في الطور السابق تدرسها فقط المدرسة الأهلية في المرحلة الابتدائية قبل أن تقرر في المدارس الحكومية) لم تقدم لأولياء الأمور مظهر الفخامة الذي يبرز أبناءهم كما يفعل التعليم الأجنبي، والذي نجح في قلب لسان الطالب إلى الرطانة الأجنبية بنجاح، وهو نتيجة متقدمة لأسرة الطالب الفخم فسوف يشرّفها في محافلها الاجتماعية بطريقته ورطانته. وهنا يظهر الحرص على التعليم الأجنبي ليحقق على الأقل هذا الهدف المرحلي ثم ليتحقق هدف آخر هو دخول الولد «الفخم» في جامعة غربية سواء أمريكية أو أوروبية وهو ما يتحقق بسهولة ويسر إن كان خريجاً لمدرسة من هذا النوع، وسوف توفر دراسة الولد الفخم في هذه الجامعات (ولا نتكلم عن الجامعات المتفوقة بالضرورة هنا) فرصة لمرحلة جديدة في حياته ينخرط خلالها بالحياة الغربية ويتشرّب عاداتها ومفاهيمها لا سيما وإذا كانت مدرسة التعليم الأجنبي تعده لمثل ذلك كما تفعل بعض المدارس، وهذه المرحلة الجامعية التأهيلية للعادات الغربية مهمة لصقل شخصية الطالب المستقلة عن التفكير الجمعي لمجتمعه والذي يقوم على عادات وتقاليد لم تعد الأسرة تتمسك بها، إذ باتت معدودة لدى طبقتها الاجتماعية نوعاً من التخلف، فليس من الضرورة أن تتبنى الأسرة مفهوم طاعة الوالدين وخدمة الأسرة والتماسك الأسري وبعض مفاهيم «الرجولة» للأولاد ومفاهيم الحشمة والحياء للبنات (وأنا هنا لا أتحدث عن مظاهر تدين أو تطرف أو ما هو محل خلاف) ونظر أسرة الأولاد الفخمين إلى أن الحياة المودرن بغض النظر عن أي اعتبارات هي المعيار.
ليس هذا هجوماً على التعليم الأجنبي فأنا أعتقد أن من يدرس العلم باللغة الإنجليزية سيكون تقدمه في فهم واستيعاب المعارف المتقدمة في الجامعة أسرع من غيره ممن يتكلف في اللغة وإن أجادها، من يدرس المعرفة العلمية باختلاف موضوعاتها (علوم – رياضيات – علوم إنسانية) في ما قبل المرحلة الجامعية باللغة الإنجليزية فقد بات يفكر بهذه اللغة ويحسن توظيفها للتعلم، ولكن ما أرمي إليه هو فئة معينة من المدارس وأولياء الأمور جعلوا من هذا البرنامج وسيلة للتجسير إلى التغريب وذوبان الهوية السعودية والعربية بكل ما تحملانه من إرث العروبة والإسلام والقيم السعودية العريقة، كل ذلك لإرضاء فئة من الأسر يدفعون أكثر من أجل أولاد فخمين!