د. محمد بن إبراهيم الملحم
كما نوَّهت مسبقاً فإن قتلة المشاجرات ليسوا بالبراءة التي يصوّرها لنا ذووهم، فهم قد شحنوا أنفسهم وتصوراتهم عن المشاجرة أنها مسألة موت أو حياة، مسألة «تعطيل» الخصم الآخر والإيقاع به كما يشاهدون في الأفلام والألعاب الإلكترونية، كما أنهم أيضاً تربوا على شجاعة لا تفهم مبدأ «المروءة» وإنما تقوم على الانتصار بأي ثمن حتى لو خرموا المبادئ التي توارثتها العروبة الأصيلة وسطرها لنا التاريخ والتي تقتضي أن تقابل خصمك رجلاً لرجل، فيذهب أحدهم في انتقامه من الطرف الآخر بتجميع «ربعه» أو «أبناء عمومته وقبيلته» للقضاء على هذا الفرد الواحد، وهذا الفكر الذي تخلف عن الوعي الحضاري وشواهد المفاخر التاريخية ليس جديداً، بل هو متجذِّر لم يفلح التوجيه الديني ولا الثقافة والتعليم في محوه والتخلص منه، ولم يأبه به مثقفو هذه المجتمعات ليقاوموه ويجرموه ويشنعوا أمره فيخرجوه من دائرة ما يُسمى بـ «الرجولة» وإثبات الذات.
كل ما سبق له استثناءات بالطبع، فهناك حوادث تقع ويحدث فيها القتل في صورة شبه عمد حقيقي يتفاوت فيها الرأي بين من يجرّمها ومن يبرئها، وربما كان اجتهاد الحكم القضائي بالجناية ولكن هذه الحالات النادرة جداً لا يمكن أن تكون هي حالة كل قتلة المشاجرات، وإن أدعى أكثرهم، (بل كلهم) أن هذا كان هو شأنهم. ومثل هذه الحالات «النادرة» يُعذَر فيها الساعون للصلح والعفو، وفي نفس الوقت فيجب أن يكون ذلك خُفية ودون حملات إعلامية حتى لا ينتشر بين فئة الشباب الطائش أن من يقتل سيسعى أهله وقبيلته بكل ما أوتوا من الجاه والمال في العفو وإطلاق سراحه. إن ما يحدث اليوم من توسع غير عادي في السعي للعفو عن القتلة ورحمة القتلة أمر خطير ونذير شؤم للمصلحة الاجتماعية. الشاب صاحب الحكمة والروية تميزه بسهولة بين أصحابه أما أكثر الشباب فالغالب عليهم ضعف الحكمة وقلة الخبرة في الحياة فتغرهم هذه «الفزعات» ويقع في روعهم أنهم بأمان إذا ما دخلوا مشاجرات دموية فما بالك بعد ذلك بمن هم دونهم في الفهم والإدراك، من تعتريهم السفاهة ويقودهم الطيش، ما سيكون شعارهم عندئذ؟! إني أعتقد أن من يسقط في ورطة القتل نتيجة اعتقاده بهذه الفزعات هو ضحية تسبب فيها أصحاب الفزعات أنفسهم، فلو أنهم سابقاً لم يتوجهوا في هذه الجهود بشكل متكرر ولم يصبح هذا شغلهم الشاغل فتعتق رقاب كثير من القتلة… لما وقع هذا الشاب الغرّ المسكين فيما وقع فيه من الطيش والتهور.
ولا يعني ما أذهب إليه في هذا الشأن أني ضد ما سمحت به الشريعة في العفو والصلح ولا حتى في دفع أموال الترضية للصلح (وليست دية في الواقع لأن قيمة الدية محددة شرعاً) ولكنما هذا السلوك أصبح له وهج إعلامي وصيت قبلي يجعل ضرره أكثر من نفعه، فمن يظن من الساعين للعفو أنه ينقذ نفساً بشرية واحدة من الموت فليعلم أنه بعدها يتسبب في هلاك عشرات النفوس البشرية التي سوف تُقتَل في المشاجرات القادمة بكل ثقة واطمئنان ولسان حال فاعلها يقول سأكون قاسياً متوحشاً حتى لو مات خصمي فإن قبيلتي «سيفزعون» لي، والأموال متوفرة منها ما هو مرصود وجاهز من خلال «صندوق القبيلة» المخصص لهذه الظروف (مع الأسف) ومنها ما تأتي به الحملات التي ستستنهض حمية أصحاب المال من القبيلة ليفاخروا بما يدفعوه لـ»يعتقوا» رقبة ابن عمهم! وبهذه المعطيات كلها فإن سيكولوجيا القاتل تصرخ «سوف أقتلك وسوف تسامحني»!
** **
– مدير عام تعليم سابقاً